بعد ليلة خاصمها النوم فيها .. نهضت من فراشها مشعثة بعينان متورمتان من السهر، وربما قليل من البكاء .. نهضت فى هدوء .. وهى تتنشق رائحة الصباح بينما تسلل لونه بين رقائق شيش النافذة والشرفة .. كانت الساعة قد شارفت على السادسة .. شدت اناملها حجاباب لم تدر لونه كان ملقى على كرسى بجوار النافذة وتركته ينسدل على شعرها وفتحت شيش النافذة .. استقبلت عيناها الضوء، وملأ الصبح رئتيها وروحها .. وتلقت مسامعها أصوات همهمات الكون حين يصحو بأوراق الشجر والنسيم وطير يغرد هنا وكروان يصجدح هناك .. قد طلعت الشمس لكنها لم تسطع بعد .. فكانت الدنيا غائمة وكأنها محتجبة بغمامات السحب .. نظرت طويلا للطريق بالأسفل، وارتسمت إبتسامة على شفتيها .. اليوم ستزور الإسكندرية .. اليوم .. بعيدا عن العمل، والزحام والأعباء .. اليوم .. وإختفت إبتسامتها .. وحل فى عينيها قلق غامر .. وأمنية حزينة .. وصوت تردد على مسامعها طوال عام .. اليوم ستراه .. هناك سينتظر عند البرج المهجور .. عند آخر الممر الصخرى بالمنتزه .. طويل .. أبيض البشرة، ويتردى نظارة شمسية عريضة، وقميص بلون السماء .. تذكرت كلماته أنه ربما عليهما أن يلتقيا .. فاللقاء يحدد الكثير من الأشياء .. تعللت أنها لا تعرفه جيدا بعد .. أجاب ومن فى الدنيا يعرف الآخر .. تعللت ببعد المكان وطول السفر، أجاب أنه لايريدها ان تأتى اليه كسبب رئيسى، ولكن إن جاءت يوما فى سفر فلتضعه جزءا من جدول هذا اليوم .. تعللت بالناس ماذا يقولون .. فأجاب يسألها لماذا إفترضت أنهما فى وضع خاطىء رغم انهما لم يلتقيا بعد .. وأنهى الحديث بصورة قاطعة قائلا أنه سوف يخبرها كل شىء عنه فى تسجيل صوتى سوف يبعثه اليها فى رسالة الكترونية .. وطلب اليها أن تنقله الى هاتفها وتبدأ فى الإستماع اليه فى اللحظة التى تتحرك فيها الحافلة من مدينتها، وطلب منها تسجيل صوتى تبعثه اليه فى رسالة الكترونية أيضا تخبره فيه أشياء عنها .. تخبره أى شىء تريد .. ما تحب .. ما تكره .. آمالها ومخاوفها .. وقد تم تبادل هذه الرسائل فى الليلة الماضية .. وقبل أن يذهبا للنوم عن الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الليلة الفائتة سألته كيف سيعرفها وهى لم تقرر ما سوف ترتديه بعد .. أجاب أنه لا يحتاج لألوان ملابسها .. لا يحتاج إلا لعينيه ليراها فيعرفها.
فكرت فى نفسها .. ياله من جنون، وحلم مغرق فى ورود وريحان .. أمن الممكن فى خضم هذا العالم ومن دون كل الناس أن تحدث قصة كهذه معها .. سألت نفسها مرارا ماذا تريد منه، وماذا يريد منها .. وفى كل مرة تمشى طريق طويل من الأفكار تعود منه خائرة العزم ضائعة أمام سدود اللامعقول و مفارقات الواقع .. وتساءلت ربما لم يزل الوقت مبكرا، ربم من الأفضل ألا تذهب، فتكمن فى حجرتها ولا تخرج، وتمسح التسجيل قبل أن تسمعه وبما أنها ساعتها لن تستطيع التحدث إليه مرة أخرى فسوف تلغيه من حسابها الإلكترونى وتلغى رسائله من بريدها، وتنساه وتنسى الخيال الذى كان منذ عام .. وهذا أضمن وأبسط وأكثر أمانا فلا تفكر ولا تنتظر ولا تتعب .. وإرتاحت قليلا عندما شعرت بالإستقرار لهذا القرار .. لكنها شعرت فجأة برغبة ملحة فى البكاء .. وتساءلت لو هذا حلم فلماذا لا تعيشه ولو ليوم واحد .. أن تكون محبة ومحبوبة أمل مغرق بالأمل .. وحياة فيها طعم ولون ورائحة .. فيها طعم الخطر ولون المغامرة ورائحة الحب .. هى لن تكون وحيدة .. ستذهب فى مجموعة من أقرانها وتعود معهم، وستخطف من يومها بضع ساعات الى جوارهم معه .. وكأنها التقته وهى لا تعرف أنها ستلتقيه .. فرد من الأفراد المنتشرين فى الأرض إصطدمت به مصادفة فى جمع فتجاذبا أطراف الحديث .. وفجأة رن جرس التنبيه فى هاتفها فإذا هى السادسة والنصف .. أسرعت تستعد للسفر .. لليوم الهادىء .. أسرعت تستعد كنجمة تتألق لإستقبال المساء.
كعادتها وصلت متأخرة عن موعد تحرك الحافلة مما استدعى أصدقائها لإنتظارها .. قفزت سلالم الحافلة شاحكة فى إعتذار وأخذت توزع الضحكات وتحيات الصباح هنا وهناك .. وسعدت بجمع من الأصحاب لم تلقهم منذ مدة طويلة فجمعتهم هذه الرحلة .. الكل هارب من ضغط الدراسة أو العمل والعبارات والأحاديث الرسمية .. عدل الجو فى الحافلة من حالتها المزاجية، وجعلهاأكثر اقبالا وتفاؤلا باليوم .. وشيئا فشيئا هدأ ضجيج التحيات والقبلات، وثار ضجيج آخر بين الغناء والتصفيق والهتافات .. وبينما انشغل أصدقاؤها فى لهوهم .. وانشغل آخرين فى حديث جانبى عن بعض الأحداث السياسية الداخلية والخارجية .. وإثنان قد استقر مقعدهما بجوار السائق إنهمكا فى دور شطرنج يشجعهما ثالث أثناء حديثه عن أنواع السيارات والموتورات مع السائق وبين حين وآخر يعلق الإثنان على اللعبة حامية الوطيس .. تسللت هى الى كرسى خلف السائق بجوار النافذة .. جلست فى وضع مريح وأرجعت رأسها الى ظهر المقعد وأخذت تنظر الى هاتفها مترددة .. وفى النهاية وصلت سماعات الرأس مطلقة العنان لصوته يملأ أذنيها ليأخذها بعيدا عن الضجيج .. لم تضع سيناريو معين لكلامه قبل ان تسمعه، ولم تستطع أن تتنبأ بما سوف يقول .. لذا فقد اسلمت أذنيها وحسها لما تسمع، وقد علقت عيناها بالطريق فى شرود ..
هل استمعت من قبل لأغنية قارئة الفنجان .. ليس كما تسمعين أى اغنية .. ولكن هل استمعت اليها وكأنها قد كتبت عنى أنا .. لم أشعر بأنها أغنيتى قبل الآن . رغم انى لم أؤمن ولن أؤمن بأى عرافة .. ولا أعترف بقرآءة الفنجان .. لكنها كلها رموز وأساطير تتجمل بها وجوه الحب والحزن والحياة والموت .. لطالما كنت انا الرجل العملى .. أحسب حياتى بلا أحلام .. أدرسها وأحصيها وأجمع الأرقام فى معادلات لتجعل حياتى أكمل .. وذات ليلة سكبت فيها فنجان قهوتى على حاسوبى، وضغطت زرا بغير قصد فبعثت برسالة بريد الكترونى إحتوت على تصاميم مشروعى الأخير الى بريد ظننته المقصود، فى اليوم التالى إستلمت رسالة مهذبة محتواها (عذرا هذا المشروع لا يخصنى .. تأكد من إرساله للبريد الصحيح) .. رسالة مهذبة أنقذت عملى وربما تكون قد أنقذتنى انا نفسى من عجلة دوارة لم ألحظ يوما أنها تتآكلنى .. وعرفتك .. كنت أنتى صاحبة الرسالة .. حرف واحد تغير فى بريد غيرنى انا ايضا .. وبعد مرور عام كامل كان كل ما بيننا أحاديث رقمية .. لم أعد أشعر بان الأرقام تكفى شيئا مما أشعر او اريد .. كنت أتمنى ان اكون انا الذى فى طريقى اليك .. أو اننا نتلاقى فى مفترق طرق فلا أحد ينتظر الآخر .. ولا أحد منا يضيع منه الوقت فى حساب الدقائق والساعات حتى نلتقى .. لكن عملى فى الميناء يجبرنى على الإنتظار وأ،ا احسب الطريق الذى تمشيه الآن وفيه تقع عيناك على أشجار ونخيل وحقول مزروعة، وعربات وبيوت وأفراد .. طريق أحاول ان اتخيله بعينى معك لكى اؤنسك فيه فلا تضيعين منى .. لا يأخذك أصحاب، ولا ضجيج ولا روعة طريق .. أحاول أن اتخيل طريقك لأمشى طريقى فى آخر الممر الصخرى بين البحرين قبل البرج القديم فى المنتزه وأنا اعلم أنك ايضا تتخيلين.
ساد صمت مطبق فى أذنيها بعد إنتهاء التسجيل الصوتى، وقد إتسعت حدقتيها محدقة فى الطريق بلا تركيز، وقد ابتل جفنيها بدمعها وهى لا تدرى ما الذى يحصل لها، وترى هل حقا هو من تريد ان يكون؟؟
بالأمس وهى تفكر ماذا تقول له، أخذتها الحيرة من فكرة الى فكرة .. وكانت أهمية هذه الرسالة الصوتية تكمن فى أنها تجمع كل المتناقضات التى فى داخلها وتحملها لذبذبات الكترونية تحمل دواخلها الحميمة .. كل هذا فى رسالة .. نعم سيسمعها بأذنيه وإحساسه كما تظن .. لكنه سيبنى ايضا من خلالها خيال أكثر ما تخشاه فيه ان يناقض الواقع .. كانت تفكر وكل ذرة من منطق فيها تتهمها بالعبث .. فأى عقل هذا يقول بأن نلتقى عبر اسلاك ودوائر رقمية وأصوات محسوسة نعم .. مرئية لا .. كيف نلتقى وقد بطل شرط من شروط اللقاء .. وعند هذه النقطة حلت فى ذهنها بضع كلمات..
بالأمس وهى تفكر ماذا تقول له، أخذتها الحيرة من فكرة الى فكرة .. وكانت أهمية هذه الرسالة الصوتية تكمن فى أنها تجمع كل المتناقضات التى فى داخلها وتحملها لذبذبات الكترونية تحمل دواخلها الحميمة .. كل هذا فى رسالة .. نعم سيسمعها بأذنيه وإحساسه كما تظن .. لكنه سيبنى ايضا من خلالها خيال أكثر ما تخشاه فيه ان يناقض الواقع .. كانت تفكر وكل ذرة من منطق فيها تتهمها بالعبث .. فأى عقل هذا يقول بأن نلتقى عبر اسلاك ودوائر رقمية وأصوات محسوسة نعم .. مرئية لا .. كيف نلتقى وقد بطل شرط من شروط اللقاء .. وعند هذه النقطة حلت فى ذهنها بضع كلمات..
ألم تسمع بنبأ تلك الفتاة .. إنها فتاة كنت اعرفها .. فتاة عادية لأسرة عادية تعيش بعيدا عن الأهواء والرغبات .. تحيا حياة عادية بلا مغامرة او مخاطرة او اشياء غير تقليدية .. تعيش فى بيت بعيد عن انواء اللامعقول .. ورغم تنائيها .. جاءتها النوة حيث تقطن .. هزتها الريح ولم تعد تدر ما العمل ولا كيف التصرف .. ظلت عام او اكثر بقليل مندهشة، ولاتزال مندهشة ولا تدرى ماذا تقول .. إنها فتاة هذا صوتها .. هذا الذى يأتيك عبر الرسالة صوت لا أعرفه تماما كما أنى لا أعرفك .. لن أسالك من انت حتى أعرفك .. فعام من صوتك أخبرنى بالكثير لكنه الكثير القليل .. ربما يفصح عنك اكثر بريدك الصوتى الأخير .. أو ربما عندما اراك حاضرا فاعرفك فى عينيك فلا اسال ثانية .. أعرف انك سوف تنتظر فى موعدنا فى ذلك المكان .. وانا لا املك ان اعطى وعدا بحضورى .. ولا املك ان اجزم بعدم الحضور .. فقط دعنا انا وانت والقدر.
قارنت فى ذهنها بين ما ارسلت وما قد ارسل .. لقد اخبر كل منهما عن اهم ما يشغل باله .. اللقاء المرتقب .. لكنه اخبرها بتشوقه، وأخبرته بمدى حذرها .. هو رغم تعقله مغامر .. وهى رغم جرأتها متحفظة .. وبينهما تتأرجح حكاية قد تبدا، وقد لا تبدا .. حكاية يحاوطها انتظار وانفعال وشىء من اللهفة .. وعلى شرودها فى طريق لم تدر ملامحه ابتسمت عندما اكتشفت كيف اخذتها كلماته التى لا تتعدى الخمس دقائق، واستعادتها آلاف المرات حتى مرت ثلاث ساعات وهى لم تشعر بمرور الوقت الا على مشارف الإسكندرية .. فلقد تغيرت رائحة الجو وبدأ الأصحاب فى إعداد اشيائهم لمغادرة الحافلة .. لقد نجح بالفعل فى ان يستحوذ على إنتباهها رغم صخب الأصحاب، واستطاع أن يرافقها طوال الطريق ويبقيها معه .. ابتسمت أكثر عندما غادرت الحافلة وهى تنظر امامها فإذا البحر ممتدا نحو الأفق، وبينه وبين الشاطىء عناق دام الى الأبد .. تارة يتسلل اليه ناعما مصطحبا حبات من رماله فى عودته .. واخرى يضرب بأمواجه خطوط الصخر فيتكسر عليها ضائعا منسحبا.
قضت بضع ساعات فى التبضع من مول شهير بالإسكندرية بصحبته بعض من اصدقائها وقد مضى الوقت فى احاديث ضاحكة وحكايات عن ذكريات طفولية ورحلات قديمة مع اشخاص آخرين .. واستوقفها بازار يبيع حلى فضية .. توقفت امامه قليلا تتامل المعروضات .. لفت انتباهها فى عارضته الزجاجية قلبا فضيا نقشت عليه حروف اللغة العربية متفرقة بخط عربى قديم وقد كان معلقا فى نهاية ميدالية فضية .. استوقفها هذا القلب الذى ظنته مجوفا لكنها حينما لامسته اناملها استشعرت ثقله بيديها .. تركته امامها تتأمله بينما أخذ البائع يحدثها عن مدى روعة تصميمه ودقته، وانه يعتبر من التحف النادرة المقلدة لتحف اصلية .. وخرجت من البازار حالمة وهى تمسك بحقيبة يدها فى حنان .. وهكذا انقضت السويعات الأولى من اليوم فى مرح .. وها هى الحافلة تعبر بوابة المنتزه .. لقد زارت الإسكندرية من قبل، وقد جاءت هنا مرات ومرات، وفى كل مرة ينتابها الإحساس الأول .. بين الأشجار والحدائق على جانبى شريط اسفلتى رفيع .. ذلك الجسر الذى يربط الحدائق بالشاطىء ثم الصخور على جانبى البحر قد كونت فى ناحية بحيرة هادئة، وفى ناحية أخرى سدا تتلاطمه الأمواج .. هذا الإحساس الملىء بالراحة والبعد عن العالم .. فى هذه البقعة يصير العالم أوسع، والناس أحلى، والسماء أصفى، والدنيا تدور دورة غير التى تحسبها .. وها هى اليوم تتذوق ذلك الإحساس وزاد عليه ترقبها .. صارت عيناها تتلفت هنا وهناك تجرى نهما للبحث عنه .. إتجهت عيناها صوب ممر البرج القديم .. مغلق كالعادة .. ورغم ذلك فقد استطاع أفراد ان يتسللوا من فتحة سقطت سهوا فى جانب السور الخشبى .. اقتربت قليلا وهى تبحث فى تأن فإذا رجل وحيد على حافة الممر معتدلا فى وقفته ضاما ذراعيه فوق صدره .. يولى وجهه شطر البحر .. شىء ما بداخلها أكد أنه هو .. صاحب الفنجان فى أغنية حليم كما ذكرها .. ولكنه بلا فنجانه ولا العرافة ولا حتى صوت حليم .. فقط هو امامها يبدو فى ضياء الشمس وكأنه ظلال إنسان .. وكم منتها الأمانى بسعادة حقيقية عندما إلتفت ببطء نحوها فلاحظها، وإفتر ثغره عن إبتسامة واسعة توحى بأنه ميزها .. إنها هى تلك التى لم ترفض ولم تعده بالمجىء .. وها هو قدرها الذى حملها لكى تتنسم شيئا من تلك الرائحة التى تعرفها حين تغمر المكان .. وفى خطواته الواثقة التى أخذ يخطو بها اليها .. أخذت تقترب منها الحياة بمعان شتى .. مازال يقترب والشمس خلفه تضىء وجوده لكنها تخفى ملامحه إلا تلك الإبتسامة البيضاء .. فصار يخطو اليها وكأنه واقع غائب تخشى أن يتلاشى فى لحظات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق